الأدب الإسلامي

 

يأتي التعبير بعد التفكير

(3)

بقلم : أديب العربية الكبير معالي  الدكتور عبد العزيز عبد اللّه الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

 

 

     ولاشك أن هذه الخصال الأربع مؤهلات عالية لسيادته على قبيلته، ففيها من جانبه التغاضي لما يوجب التغاضي، وفيها الانتباه لما يوجب الانتباه، وعدم الغفلة، واستعمل عرابة كلمة «أنخدع» قاصدًا، فهو يعطي حتى في الأمر الذي يشعر أن صاحبه يخادعه، ولكنه راضٍ بذلك، ويذل له طائعًا، لأنه يعرف أن في هذا عزة لقومه، وهو شريك لهم في عزهم أمام غيرهم. وهو يَقِظٌ حَذِرٌ في ألا يشعر أصغرُ فرد بينهم أنه يحتقره، أو لا يوليه مقامَه من الاعتبار؛ ولا يحسد ذا النعمة، وعلى هذا كله فهو رجل نادر.

     وننتقل إلى حصيلة فكر نشط، فنجد نوعًا من العدد تنازعه شخصان: أحدهما يريده ثنائيًا، والآخر، وهي امرأة، تريده ثلاثيًا. ويغلب الرجل بالمنطق، فيبقى الأمر ثنائيًا، وأخفق هذه المرة مغناطيس العدد ثلاثة، والقصة طريفة، وهي كما يلي:

     «تَزَوَّجَ مُغَنٍّ نائحةً فسمعها تقول:

     اللهم وَسِّعْ علينا في الرزق، فقال:

     يا غافلة، إنما الدنيا فرح وحزن، وقد أخذنا بطرفي ذلك، إن كان فرح دعوني، وإن كان حزن دعوكِ، فهل ثَمَّ ثالث؟»(1).

     نحن نجيبه فنقول: لا، ليس ثَمَّ ثالث، وأنت فهمت خطأ ما قصدته الزوجة، فهي تريد أن يكثر هذا، ويكثر هذا. ولكن الملحة لا تتم إلا بهذا الاعتراض من الزوج.

     وهذه الملحة تجر إلى أخرى، فهناك قول فيه أربعة آلاف، وهو أعلى عدد صادفناه في هذا المجال، ولا خوف في تعدادٍ يؤتى به لهذا العدد؛ لأنه سوف يموت في مهده إذ لن يذكر منه إلا عدد واحد. وهذه هي القصة:

     «جاء بعضُ الثقلاء إلى بعض الظرفاء، فقال له:

     بَلَغَنَا عنك أن لك أربعةَ آلاف كلمة من الجواب المسكت، وأحب أن تُعلِّمني بعضَها.

     قال: سل عما بدا لك حتى أعلِّمك.

     قال: إن قال لك أحد: أسكت، يا ثقيل.

     قال: قل له: صدقت.

     فخجل الرجل، وانصرف»(2).

     ويقال: إن هذا الحديث جرى بين الأعمش وأبي حنيفة، وكلاهما من الحذق بمكان؛ وإذا كان المجيب اتَّقى أربعة آلاف كلمة من أن تنزل عليه فيسردها، أو يسرد شيئًا منها على السائل، ففي نص ثانٍ يتّقى شاعرٌ الموت عندما خيّر بين ثلاث من وسائله، وليس فيها خيرة لمختار، وخرج منه بحيلة مفاجئة، ذكيّة متقنة، يكاد الشكُّ فيها يغلِب الحقيقةَ من شدة إتقانها، وسرعة البديهة فيها:

     «طلّق الوليدُ بنُ يزيد زوجتَه سعدى، فلما تزوجت اشتد ذلك عليه، وندِم، فدخل عليه أشعبُ، فقال له: أبلغ سعدى عني رسالةً، ولك عندي خمسةُ آلاف درهم، قال: عجِّلها، فأمر له بها، فلما قبضها قال: هات رسالتك، قال: ائتها، وأنشدها:

أسعدى، هل إليكِ لنا سبيل

ولا حتى القيامـة مـن تلاق

بلى، ولعل دهـــرًا أن يواتي

بموت من خليلك أو فراق

     فأتاها، فاستأذن عليها، فأذنت له، وقالت:

     ما بدا لكَ في زيارتنا؟

     قال: يا سيدتي، جعل لي على ذلك خمسة آلاف درهم.

     قالت: والله لأعاقبنّك أو تبلغ إليه ما أقول.

     قال: يا سيدتي، اجعلي لي شيئًا.

     قالت له: لك بساطي هذا.

     قال: قومي من عليه.

     فقامت، فألقاه على ظهره، وقال: هات رسالتك، قالت له:

     قل له:

أتبكي على سعدى وأنت تركتها؟

لقد ذهبت سعدى، فما أنت صانع؟

     فلما بلغه ذلك سقط في يده، وقال:

     اختر مني إحدى ثلاث خصال:

     إما أن نقتلك، وإما أن نطرحك من هذا القصر، وإما أن نلقيك إلى ذلك السباع؟

     فتحير أشعب، وأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه، وقال:

     يا سيدي، ما كنت لِتُعَذِّب عينين نَظَرَتَا إلى سعدى، فتبسم، وخلّى سبيلَه»(3).

     ويُتْقن شخص الإِطار، ويحشوه حشوًا لا يمكن أن يزاد عليه في حدود ثلاثية، ويغلفه بفكاهة، تبتسم معها القصة:

     «قيل لظريف له ثلاثة أولاد ثقلاء:

     أي أولادك أثقل؟

     فقال: ليس بعد الكبير أثقل من الصغير إلا الوسط»(4).

     والنتيجة بعد هذه الدورة أن الوسط أثقل الثلاثة، وصار الصغير هو الوسط في الثقل، وأخف الثقلاء هو الكبير!!

     ولولا هذا الأسلوب الذي سلكه صاحب القصة لما وصل إلينا هذا القول، ولكن حظ العدد «ثلاثة» يغلب دائمًا كل عدد، حتى في الأسلوب المبتكر مثل هذا، وسيبقى غالبًا إن لم يصب بالعين، فيغلبه عدد آخر.

     ويبدو أن هذه الصفحات من حديثنا هذا سوف تأخذ نصيبًا وافيًا من الظرف والطرافة، فالقول الآتي مثل ما سبقه، فيه طرافة:

     «قال رجل لآخر: قد أحكمت النحو كله إلا ثلاث لفظات أشكلت عليّ:

     قال له: وما هي؟

     قال: «أبا فلان»، و«أبو فلان» و«أبي فلان». ما الفرق بينهما؟

     قال له صاحبه: أما «أبو فلان» فللملوك والأمراء والقضاة والحكام. وأما «أبا فلان» فللتجار، وأرباب الأموال، والوسط من الناس، وأما «أبي فلان» فللسفلة، والأسقاط، والأوباش من الناس»(5).

     ويبدو أن شنًّا وافق طبقة، فجاهل وقع على جاهل، أما جهل الأول، فزاده ادعاؤه أنه أحكم النحو، ومن أحكم النحوَ بما فيه من صعوبات فلن يعجزه إحكامُ حكم الأسماء الخمسة، وقد يحتج الثاني علينا إذا وضعناه في صفٍّ واحدٍ مع الأول، ويطلب درجةً أخف في الجهل وأدنى؛ ويدعي أنه اختار «أبو» للملوك، والأمراء، والقضاة، لأنها «رفع»، وهم قد رفعهم الله من عنده. واختار «أبا» للتجار، وأرباب الأموال، لأنها نصب، وهم المعروفون «بالنّصب» على الناس في الأسعار(6)، واختار «أبي» وهي مجرورة ومكسورة، لمن يغلب عليهم الأذى والإِجرام، فأعطاهم جزاءً وفاقًا لأعمالهم!!

     أليس في هذا منطق منتظم؟ أين الخلل فيه؟

     وتأبى ثلاثة إلا أن تكون معنا، وكأنها تخشى أن تزاحم، خاصةً وقد أفزعها العدد: أربعة آلاف في القصة السابقة، وإذا كانت الكثرة تغلب الشجاعة في عرف الناس فالتكرار في عرف الأقوال هو الذي يغلب. ولهذا فتكرار «ثلاثة» مئات المرات يغلب أربعة آلاف مرة واحدة!

     وقصة العدد ثلاثة في القصة الآتية قصة جادة تنقلنا من مجلس إلى مجلس، ومن حديث إلى حديث، ومن معنى إلى معنى:

     «سئل بعضُ الحكماء:

     أي الأمور أشد تأييدًا للعقل، وأيها أشد إضرارًا له؟

     فقال: أشدها تأييدًا له ثلاثة أشياء:

     مشاورة العلماء،  وتجربة الأمور، وحسن التَّثبت.

     وأشدها إضرارًا به: الاستبداد، والتهاون، والعجلة»(7).

     إن هذه الثلاثة في هذه القصة تضيء بالحكمة، والقول الحسن، وإن فيها من القيمة ما يربو على الذهب واللؤلؤ والجوهر؛ إنها عصارة فكر نيّر، ولا بعد هذا القول مزيدٌ فيما يؤيد العقل، فالمشورة خطوة سديدة، جاء الحث عليها في صلب الدين، ولا يُستغنى عنها للوصول إلى الصواب، والبعد عن الزلل، فكيف إذا كانت المشورة مع العلماء، أهل العقل، والرزانة، والحكمة.

     ويرادف ذلك في تأييد العقل التجربة، ومزاولة الشيء، ومعالجته، والخروج منه بزبدة تغذي الفكر وتنميه.

     والعنصر الثالث التثبت، وفيه الكسب، والبعد عن الخسارة؛ وفيه الصواب، وتوقي الزلل، وفيه المحمدة للأمر يؤتى، وفيه السلامة من الندم وهو ما تجلبه العجلة، وعدم التروي.

     وكل إنسان يقطف حكمته من ميدانه ومحيطه، ومن صنعته، فإذا كان هذا ما قاله حكيم، فهناك ما قاله بطل، عرف بمجالدته الشجعانَ، وشن الغارات، وقيادة الحروب، ولا غروَ أن يأخذ ثلاثيته من ميدان القتال، ويحكم على الرجال بما يأتي منهم فيه:

     «قال عمرو بن معدي كرب: الفزعات ثلاث:

     فمن كانت فزعته في رجليه، فذاك الذي لا تقله رجلاه.

     ومن كان فزعته في رأسه، فذاك الذي يفر من أمه.

     ومن كانت فزعته في قلبه، فذاك الذي يقاتل»(8).

*  *  *

الهوامش:

حدائق الأزاهر: 123.

حدائق الأزاهر: 106.

حدائق الأزاهر: 136.

حدائق الأزاهر: 203.

حدائق الأزاهر: 265.

«قيل للشعبي: أين فرخ إبليس؟ قال في الأسواق. قيل: وكيف؟ قال: لأن في الأسواق ما يسره من البخس، والتطفيف، والغش، والخيانة، والمدح والذم بغير حق؛ وخلف الوعد، ومطل الحقوق، والتعاون على الأباطيل». ربيع الأبرار: 1/340.

حدائق الأزاهر: 277.

حدائق الأزاهر: 277.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، شعبان 1435 هـ = يونيو 2014م ، العدد : 8 ، السنة : 38